الصناعات الإبداعية في العراق، حل بديل لمستقبل الاقتصاد العراقي النفطي غير المستقر
يواجه الاقتصاد العراقي، الذي يتصارع مع تحديات “لعنة الموارد”، مفترق طرق حاسم، على الرغم من وفرة موارده الطبيعية، يواجه العراق تفاوتاً كبيراً في توزيع الثروة والتنمية الاقتصادية، وبحسب التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2022، هناك خلل ملحوظ في مساهمات مختلف القطاعات في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، حيث ان عوائد النفط لا تزال تشكل قرابة 91% من إجمالي الإيرادات الفعلية السنوية في الموازنات الحكومية مقابل 9% للإيرادات غير النفطية، وبهذا فإن قطاعات أخرى مثل الزراعة والتصنيع والبناء والصناعات الابداعية تتخلف عن الركب بشكل كبير، ويشير تحليل صندوق النقد الدولي إلى الحاجة الملحة لإجراء إصلاحات هيكلية ومالية كلية في العراق، وينبغي لهذه الإصلاحات أن تهدف إلى تعزيز القطاع الخاص، وتعزيز الإدارة الفعالة، والحد من سوء التخطيط، وتحسين استدامة الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والطاقة، وتعزيز بيئة مواتية للاستثمارات في مختلف القطاعات.
إن مفهوم الاقتصاد الإبداعي، الذي يبرز كمفهوم قادر على المساهمة في الاقتصاد العراقي على مدى السنوات ال٢٠ القدمة، يمتد إلى ما هو أبعد من مجرد الفن او الابداع، وهو يشمل مجموعة واسعة من الأنشطة حيث تكمن القيمة في الإبداع والأهمية الثقافية والملكية الفكرية، وهذا يشمل، على سبيل المثال لا الحصر، قطاعات مثل السينما والتلفزيون والموسيقى والفنون والحرف اليدوية والتصميم والهندسة المعمارية، والالعاب والوسائط الرقمية والنشر والترفيه، وتسخر هذه القطاعات قوة الخيال البشري، والتراث الثقافي، والابتكار التكنولوجي، وتحول الأصول غير الملموسة إلى مكاسب اقتصادية واجتماعية ملموسة.
واستناداً إلى رؤى مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، يمثل الاقتصاد الإبداعي عالمياً 3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مما يشير إلى وجود فرصة كبيرة للنمو الاقتصادي من خلال هذه القطاعات، تؤكد قصص نجاح بلدان مثل كوريا الجنوبية، من خلال صناعة الكيبوب المعترف بأهمية تأثيرها عالمياً، على القيمة الاقتصادية والثقافية للاستثمار في القطاعات ولم تساهم هذه الصناعات بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي الوطني فحسب، بل عززت أيضاً بصمتها الثقافية العالمية.
بالنسبة للعراق، يعني هذا الاستفادة من تقاليده الفنية الغنية ومواهبه المعاصرة لتعزيز نظام بيئي يزدهر فيه الإبداع ويساهم في الاقتصاد الأوسع. ويمكن للصناعات الإبداعية أن تحفز خلق فرص العمل، وخاصة للشباب، وأن تعزز مجموعة متنوعة من المهارات. وفقا لليونسكو، تعد الصناعات الثقافية والإبداعية من بين القطاعات الأسرع نموا في جميع أنحاء العالم، وتوفر سبلا للنمو الاقتصادي الشامل، علاوة على ذلك، فإن تطوير هذه الصناعات في العراق يمكن أن يعزز التصدير الثقافي للبلاد، ويعزز خطابها التسويقي على الساحة العالمي، في عصر تجاوزت فيه وسائل الإعلام الرقمية الحدود، يمكن للقصص والفنون والابتكارات العراقية أن تجد جماهير دولية، مما يساهم في الدبلوماسية الاقتصادية والثقافية للبلاد.
على مدى السنوات العشرين المقبلة، تتمتع الصناعات الإبداعية بالقدرة على أن تكون حلاً رائداً للاقتصاد العراقي، حيث توفر نموذجاً اقتصادياً مستداماً ومتنوعاً يتجاوز الاعتماد التقليدي للبلاد على النفط، إن دمج هذه الصناعات في الإطار الاقتصادي العراقي يمكن أن يدفع الابتكار، ويخلق فرص العمل، ويعزز التنمية الثقافية والاجتماعية، مما يوفر نهجا متعدد الأوجه للنمو الاقتصادي، من خلال التالي:
١- تنويع الاقتصاد
– الحد من الاعتماد على النفط: يتيح التحول نحو الصناعات الإبداعية للعراق فرصة استراتيجية للتخفيف من اعتماده الكبير على قطاع النفط، الذي يخضع لتقلبات الأسعار العالمية وعدم الاستقرار الاقتصادي، ومن خلال التركيز على القطاعات الإبداعية، يمكن للعراق إنشاء أساس اقتصادي أكثر استقرارا ومرونة، ويتوافق هذا النهج مع استراتيجيات التنويع التي أوصى بها الخبراء الاقتصاديون لمواجهة “لعنة الموارد” التي غالبا ما تواجهها البلدان الغنية بالموارد.
– التوسع في مصادر إيرادات جديدة: يقدم المشهد العالمي أدلة دامغة على الكيفية التي يمكن بها للصناعات الإبداعية أن تفتح مصادر إيرادات مربحة ومستدامة، على سبيل المثال، فإن استثمار كوريا الجنوبية في قطاع الترفيه، وخاصة في الموسيقى والأفلام، لم يعزز اقتصادها فحسب، بل زاد أيضاً من تأثيرها الثقافي عالمياً، كما هو موضح في ظاهرة “موجة الهاليو”، وبالمثل، فإن تركيز المملكة المتحدة على القطاعات الإبداعية مثل الموضة والموسيقى والنشر ساهم بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي، مما أظهر إمكانات هذه الصناعات في تحفيز النمو الاقتصادي.
٢- تعزيز السياحة الثقافية والإبداعية
– السياحة كمحرك اقتصادي: يمكن للصناعات الإبداعية أن تعزز السياحة بشكل كبير من خلال جذب الزوار لتجربة التراث الثقافي الغني والفنون والفعاليات الإبداعية في العراق. إن نجاح دول مثل إيطاليا وفرنسا في الاستفادة من تراثها الثقافي في مجال السياحة يقدم رؤى ثاقبة حول أهمية السياحة في التنمية الاقتصادية.
– المهرجانات والفعاليات الثقافية: يمكن لاستضافة مهرجانات الأفلام والموسيقى والفنون أن تجتذب السياح المحليين والدوليين، يعد مهرجان إدنبرة في اسكتلندا مثالاً على كيفية قيام مثل هذه الأحداث بتنشيط اقتصاد المدينة.
– المواقع والمتاحف التراثية: تطوير المواقع والمتاحف التراثية بعروض تفاعلية وإبداعية يمكن أن يعزز التجربة السياحية، يعد متحف اللوفر في باريس ومتحف غوغنهايم بلباو مثالين على كيفية تحويل الفن للسياحة المحلية.
– المساحات والمناطق الإبداعية: إنشاء مناطق أو مساحات إبداعية داخل المدن، على غرار منطقة الفنون 798 في بكين، يمكن أن تصبح مناطق جذب سياحي مع تعزيز المواهب الإبداعية المحلية.
٣- فرص العمل وإشراك الشباب
– خلق فرص العمل: الصناعات الإبداعية كثيفة العمالة بشكل خاص ويمكن أن تخلق مجموعة واسعة من فرص العمل، وهو أمر بالغ الأهمية في بلد يحتوي على نسبة عالية من الشباب.
– تنمية المهارات: تعمل هذه الصناعات أيضاً على تعزيز تنمية المهارات في مجالات مثل الوسائط الرقمية والفنون والتصميم وريادة الأعمال، مما يوفر للشباب مهارات مستقبلية.
٤- الحفاظ على الثقافة المحلية وتعزيزها
– عرض التراث الثقافي: يمكن تسخير التراث الثقافي والتاريخي الغني للعراق وعرضه عالمياً، مما يساهم في الهوية الوطنية والسياحة الثقافية.
– تصدير الثقافة: من خلال الترويج للفنون والحرف اليدوية والأفلام والموسيقى المحلية على المستوى الدولي، يستطيع العراق زيادة قوته التسويقية كدولة وتأثيره الثقافي على المشهد العالمي.
٥- الابتكار والتقدم التكنولوجي
– تبني التحول الرقمي: الصناعات الإبداعية هي في طليعة الابتكار الرقمي، إن تبني هذه التقنيات يمكن أن يضع العراق كدولة رائدة في التقدم التكنولوجي الإبداعي في المنطقة.
– دعم الشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة: تشجيع الشركات الناشئة في القطاع الإبداعي يمكن أن يؤدي إلى الابتكار التكنولوجي والإبداعي، كما كان الحال في دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة.
٦- النمو المستدام والشامل
– تعزيز الشمولية: يمكن للصناعات الإبداعية أن توفر فرصاً للنمو الشامل، وتتيح سبلاً لمختلف شرائح المجتمع للمشاركة في الاقتصاد.
– التوافق مع أهداف التنمية المستدامة: تتوافق هذه الصناعات مع العديد من أهداف التنمية المستدامة، بما في ذلك العمل اللائق والنمو الاقتصادي، والحد من عدم المساواة، والمدن والمجتمعات المستدامة.
٧- دعم السياسات وتطوير البنية التحتية
– الدور الحكومي: لكي تزدهر هذه الصناعات، من الضروري وجود سياسات داعمة وآليات تمويل وبرامج تعليمية. إن التعلم من أطر السياسات في دول مثل كندا وأستراليا يمكن أن يوفر رؤى قيمة.
– بناء البنية التحتية الإبداعية: إن تطوير المراكز الإبداعية والمراكز الثقافية والمنصات الرقمية يمكن أن يوفر البنية التحتية اللازمة لنمو هذه الصناعات.
٨- بناء نظام بيئي إبداعي
– التواصل والتعاون: إنشاء منصات للتواصل والتعاون بين الفنانين ورجال الأعمال والتقنيين يمكن أن يؤدي إلى مشاريع إبداعية مبتكرة وشركات ناشئة، على غرار نموذج وادي السيليكون في الولايات المتحدة.
– الشراكات بين القطاعين العام والخاص: إن الانخراط في شراكات بين القطاعين العام والخاص من أجل التمويل وتخصيص الموارد من شأنه أن يعزز بشكل كبير نمو القطاع الإبداعي، كما لوحظ في برنامج أوروبا الإبداعية التابع للاتحاد الأوروبي.
٩- الاستفادة من المجتمع الالكتروني والمنصات الرقمية
– الوصول إلى الأسواق العالمية: مع ظهور المنصات الرقمية، أصبح بإمكان المبدعين العراقيين الوصول إلى الأسواق العالمية وعرض أعمالهم على المنصات الدولية. ويعتبر نجاح المنصات الرقمية في توزيع محتوى بوليوود الهندي في جميع أنحاء العالم مثالاً على ذلك.
– التجارة الإلكترونية للمنتجات الإبداعية: يمكن أن يؤدي تطوير منصات التجارة الإلكترونية للفنون والحرف العراقية إلى فتح أسواق جديدة ومصادر إيرادات جديدة.
١٠- تعزيز البحث والابتكار
– البحث في الصناعات الإبداعية: إن تشجيع البحث في الصناعات الإبداعية، بما في ذلك دراسات السوق، وتحليلات الاتجاهات، وسلوك المستهلك، يمكن أن يوفر رؤى للتنمية الاستراتيجية.
– مختبرات وحاضنات الابتكار: يمكن أن يؤدي إنشاء مختبرات وحاضنات الابتكار خصيصاً للشركات الإبداعية، كما هو موضح في سياسة الاقتصاد الإبداعي في كوريا الجنوبية، إلى تحفيز الابتكارات الإبداعية والتكنولوجية.
١١- التآزر بين الصناعات الإبداعية والسياحة
– المبادرات التعاونية: يمكن للمبادرات التعاونية بين قطاعي السياحة والإبداع أن تؤدي إلى منتجات سياحية مبتكرة، مما يعزز جاذبية العراق كوجهة سفر.
– رواية القصص والروايات: يمكن أن يؤدي استخدام رواية القصص من خلال الفنون ووسائل الإعلام المحلية إلى خلق تجارب غامرة للسياح، وتعميق تفاعلهم مع الثقافة العراقية.
– التسويق والترويج: يمكن للصناعات الإبداعية أن تلعب دوراً هاماً في التسويق والترويج للعراق كوجهة سياحية ثقافية وإبداعية فريدة من نوعها، وذلك باستخدام المنصات التقليدية والرقمية.
تمثل الصناعات الإبداعية في العراق فرصة متعددة الأبعاد للنمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية وتعزيز الثقافة على مدى السنوات العشرين المقبلة، وتتطلب هذه الرؤية نهجا شاملاً، يجمع بين الدعم الحكومي، ومشاركة القطاع الخاص، وإصلاح التعليم، والتقدم التكنولوجي، والالتزام بالشمولية، والاستدامة، ومن خلال تبني هذا النهج، يستطيع العراق تحويل صناعاته الإبداعية إلى جزء حيوي ومتكامل من اقتصاده، بما يعكس تراثه الثقافي الغني وتطلعاته المستقبلية.